الحلقة الخامسة عشرة
فوجئت بهذا السيل المنهمر من أحبابنا الأطفال-ما شاء الله تبارك الله-وتذكرت فلذات أكبادي وتذكرت زوجتي الأولى..وقمت متثاقلا وسط صراخ الأطفال وتحلقهم حول العروس يعتنقونها ويقبلونها ويتزاحمون ويتعاركون من أجل ذلك..
فذهبت إلى المغسلة وغسلت وجهي بالماء دون الصابون..وعدت إلى الغرفة فهرع إليَّ شرذمة من الأطفال للسلام علينا ومباركة مشروعنا الجديد..وأنهيت هذه المهمة بسلام..
وبينما كنت أستعد لتغيير ملابس النوم إذا بشقيق العروس التي دخلت الحمام للتو يتوسط غرفتنا ويطوف حوله الأطفال وهم يصرخون ويضحكون وهو يلاعب هذا ويمازح ذاك وقد بدا كزعيم قومي حقق نصرا وعاد ليحتفل به أنصاره ومؤيدوه..
وشعرت بالإحراج لأنني لم أكن قد خلعت ملابس النوم بعد..ولكنه سلم علي وبارك لي مجدداً وقد رأى معالم الإحراج تتقاطع فوق ملامحي كتقاطع عدد كبير من السيارات في نقطة التقاء لأربعة شوارع حين تتعطل إشارة المرور..
فسأل عن العروس ثم استأذن وأنسحب في هدوء..فأذنت له بكل سرور..وقلت له شكرا ومتشكرا ومشكور..
وبعد نحو نصف ساعة أو أقل جاءنا طعام الإفطار..وقامت عروسي بدور عظيم في إفراغ الغرفة من زائريها الجدد..
غير أن صاحبنا الأول بقي في الغرفة يقفز من مكان إلى آخر و قال بكل إصرار إنه سيتناول طعام الإفطار معنا شاء من شاء وأبى من أبى..
وقلت في نفسي:ها أنا أترك أطفالي فلا أفطر معهم وآتي إلى هنا لأفطر مع عيال خلق الله!!!..ولكن تذكرت أنه يتيم فهان الأمر..
ثم تذكرت إنني عريس ومن حقي أن أستمتع بأيام العرس الثلاثة على الأقل..
ومن حقه هو أن يلهو مع الأطفال الباقين من إخوة وأخوات وأقارب..
ولكن ما الحيلة في إخراج هذا الصغير؟؟..
قررت أن أتنازل عن بعض موقفي لأستطيع الوصول إلى هدفي..
كانت أمه طيلة تلك الفترة مشغولة باللبس والتزين وجاءت ترفل في زينتها ونعمتها وجلسنا نحن الثلاثة على المائدة وأصر الصغير على أن يستأثر بجوار والدته جنبا إلى جنب..
كانت مائدة الإفطار تحتوي على أكثر من خمسة عشر صنفا دون مبالغة..طبق من الفول والبيض بأنواعه الثلاثة مسلوق ومقلي وشكشوكة..والأجبان أكثر من خمسة أنواع..والقشطة نوعان والمربى عدة أنواع وطبق العسل وطبق زبدة الفول السوداني والزيتون نوعان..
طبعا لقد عددت الأطباق..وقلت لعروسي:لماذا هذه الكلفة؟؟..فقالت:الله يحييك يا عمري وش سوينا شوية نواشف..
وبعد أن أكل الصغير عدة لقيمات يقمن صلبه ويدعمن نشاطه وطاقته ومشاكسته سألته:
أين الأطفال؟؟..
فقالت العروس:في الصالة يفطرون ويتفرجون في التلفزيون..
فهب وصاح:سوف أذهب إليهم..
فخرج محفوفا بدعوات الرعاية والسلامة وطول الإقامة..
وأقبلت أنا وعروسي نأكل ونمزح ونضحك..وبعد كل فترة وجيزة تسألني ماذا تريد؟فأجيب لتضع لقمة بيدها الحانية في فمي..واضطررت للرد بالمثل..ووضعت في فمها بضعا من اللقيمات..
وبعد أن أفطرت فطورا ثقيلا هنيئا مريئاً وشربت الشاي بالحليب حتى كأنني من إقليم البنجاب العجيب استلقيت على السرير بينما أنشغلت العروس برفع المائدة وإخراج أجزائها مع الصغار خارج الغرفة..
وأخذت أفكر في زوجتي الأولى وأتذكر ابتسامتها وإشراقتها..
وأتذكر بكاءها و دمعتها..وأتذكر الأطفال وأشعر بالشوق والقلق..
ولكن ما إن عادت عروسي حتى جاءت معها بموجة من الطمأنينة والسلام..
وقامت خلال تلك اللحظات وما تبعها من تأملات بحملة ناجحة من المساج والتدليك لقدمي وساقي وركبتي..فلقد قصصت عليكم ما عانيته يوم العرس من تعب ونصب ووصب..
وأنا كوالدي يحفظه الله مدمن مساج ولا أكاد أستغني عنه ليلة بل في اليوم ربما عدة مرات..
كان المساج الرائع قد أدخلني في نوبة عميقة من التأملات في حالي بين زوجتي الأولى وزوجتي الجديدة..
بالرغم من أن العروس كانت تسأل بين فترة وأخرى أسئلة استطلاعية عن زوجتي الأولى وعن أهلي..
وكنت أجيب على أسئلتها بحذر شديد..
وبعد أن صلينا الظهر سألتني عن الغداء وش نفسك فيه؟؟..فقلت:غداء!!!وما يزال الإفطار جاثما في معدتي يرفض التحرك حتى الآن..
فقالت:سوف نتغدى بعد العصر إن شاء الله..
فقلت:حتى ولو كان بعد المغرب..
فقالت:لا لابد من الغداء أتريد أن تزعل الوالدة علينا وأنت يا حبيبي عريس وضيف اثنين في واحد..وضحكت وضحكت مجاملة لها..
ويبدو أنني لم آخذ كفايتي من النوم فطلبت منها أن تأذن لي بأخذ قسط متوسط من النوم..
فوافقت وقالت:سوف أذهب للسلام على الوالدة وأهلي وودعتني بقبلة في يدي..
وحاولت النوم ولكن مندوبه من النعاس قال إن مولانا النوم يرفض القدوم إليك وأنت تحيط برأسك الهموم والوساوس..
فرجوته أن يفهم سيده أنني سوف أقوم بإبعادها بل بطردها إن لزم الأمر..ولكنها قاتلها الله أبت أن تخرج أو أن تغادر..بل حتى رفضت أن تهدأ..
وأخذت أتقلب في فراشي وأتذكر زوجتي..
طبعا زوجتي لم أتصل بها منذ يوم تقريبا ومن المتوقع أن القلق قد استبد بها..ولكن ما العمل وأنا في غرفة العروس؟؟؟..
جلست في سريري بعد أن يئست من النوم وحيدا فريدا أتفكر في حالي ومآلي..
ثم قررت توجيه نداء للعروس ولكن كيف أقوم بذلك؟؟..عندي جهاز هاتف ولكن ما هو الرقم الذي أطلبه؟؟لا أعرف..
وهل أقوم بفتح باب الصالة الداخلية وأطلق نداءي!!!..
وقررت اختيار الثاني..وفتحت الباب..وأخذت أنادي عروسي مرتين:يا أم فلان يا أم فلان..
وسمعت امرأة تنادي عروسي باسمها وتقول:كلموا فلانة ترى زوجها يريدها..
وما هي إلا دقائق حتى جاءت العروس وقالت باستغراب:ما نمت!!!!وأنا كنت أحسبك في سابع نومة..
فقلت:لا سابع ولا ثامن..ما جاني النوم وأنت بعيدة عني طبعا لا أدري كيف جمعت هذه الكلمات ودفعت بها سريعا من بوابة المجاملة التي قمت بترميمها حديثاً..
فابتسمت وقالت:أنا جنبك على طول يا روحي..وما كادت تكمل كلماتها تلك حتى كان الصغير هو الآخر بجنبي وليس بجنبها..
فشخطت فيه ونفخت وأمرته بالخروج وخرج بعد تمنع وبعد ترهيب وترغيب..
جلسنا نتحدث سويا ورأسي في حجرها تداعبه بأناملها الحمراء التي صبغتها أوراق الحناء..مع أنني لا أحب الحناء ولا رائحتها ولكن نجامل ونتجمل..
وصليت العصر بمسجد صغير جوار المنزل وعدت إلى غرفتي ولم أجد عروسي..
وبعد مدة يسيرة جاءت ومعها ابنتها الكبيرة تحملان أطباق الغداء..وكان عبارة عن كبسة باللحم حمراء وطبقي جريش وقرصان وسلطة وعصير البرتقال الذي أكن له أعظم التقدير..
وكنت بين الشبع والجوع ولكن شهيتي بدأت تحاول الانفتاح..وتغدينا معا..
ثم شربنا الشاي..ثم عقدنا اجتماعا مغلقاً لم يسمح فيه بدخول أحد وخرجنا بقرار بالإجماع ألا وهو الخروج للنزهة وقضاء تلك الليلة في الفندق..
وبدأنا نجهز حقيبتنا للخروج..وقبيل المغرب قمنا خارجين من المنزل فتلقانا الصغير وحين رأى أمه بالعباءة صرخ صرخة سمعها من بين لابتي الحارة..وأخذ يبكي ويصرخ بهستيريا عنيفة..ويتعلق بأطراف عباءة عروسي التي هي والدته..
فقلت في نفسي بلهجة مصرية حزينة:يا دي النيلة ودي الليلة اللي متنيلة على الآخر..
وحاولت تهدئته فصرخ في وجهي كقط صغير متوحش:أنت ما لك شغل أنا أكلم أمي!!..
فسكت وقلت:صح وأنا وش لي شغل خله يكلم أمه..
وعبثا كانت تحاول أمه معه تهديه وتلاطفه وهو يحلف ويقسم أنه ليخرجن معنا ولا يطيع أحداً منا..
فظننت أنني خسرت المعركة وأنه سوف يبر بقسمه وينتصر علينا في نهاية الجولة ويكون جليسا بيننا في السيارة..
ولكن الحريم يا سادة..لقد تقطع قلبي حزنا وزعلا منه في نفس الوقت..
الحريم إذا قررن أخذ زمام المبادرة وتلقين المتعدي درساً فسوف ترون الأعاجيب..
وهذا ما سوف أرويه لكم في الحلقة القادمة بإذن الله تعالى..