( ١٦ ) ....
جاء الضيوف ..... كانت أمي تتحدث معهم بكلمات قليله... برسميه وهدؤوء وثقل ... رغم أننا نعرفهم .... رغم أنهم أشخاص مألوفين ... أعتدنا عليهم منذ وقت طويل .... كنت أتحدث معهم بإنفتاح كبير .... أندمج معهم بسرعه كبيره ... حتى أنهم تركو أمي وأصبحو يتحدثون معي ..... فيما أمي أكتفت بالصمت والإستماع .... وبالجلوس بالمكان بكل هدؤوء
كانت إحداهن تتحدث عن إبنتها ... وعن أطفالها الذين أنجبتهم بشكل متتالي جدااا ... وعن حياتها كيف أصبحت .... قلت بعفويه : ياه كيف هي صابره على هذا العدد ..
نظرت لي أمي وبصوت منخفض تحذيري قالت لي : حاسبي على كلامك ...
كنت أستغرب من أمي كثيرا .....فهؤلاء منا .. لم كل هذه الرسميه .... عندما رحلو ... قلت لأمي ..... اووووه ياأمي ..... كوني منفتحه على الناس ..!!! ... قالت أمي بهدوء كبير وكأنها تحدث نفسها عوضا عن الحديث معي : يجب أن أحاسب نفسي على كل كلمه أقولها ....!!!!
شعرت بصدمه في داخلي ..... وأكتفيت بالصمت ... بدأت أفكر بكلام أمي كثيرا .... وأتساءل .... هل الحياه معقده لهذه الدرجه ...؟!!!
تذكرت عندما كنت طفله .. كنت هادئه جدا أمام الضيوف .. وبكل الأحوال ...لاصوت لي ولاهمس ... ولاأي حركه ولاأي إزعاج ... فأمي دقيقه كثيرا ولاتعجبها هذه التصرفات .. كنت أشعر بأني لو أحدثت إزعاجا أمام الضيوف .. أو أنني أرد على الضيوف بنفس أسلوبهم وان كانو هم المتسببين ... فإني شخص قليل التربيه .. سيء الأخلاق ... فأمي لاتحتمل كل ذلك .. يصيبها إنهيار لو قال أحد الأشخاص ... إبنتك كثيره الحركه ... او أنتقد شيء ما في أبنائها ولو كان شيء عادي أو طبيعي ...
يهمها كثيرا نظره الناس لها .....
فلابأس أي يكون الضيوف مزعجين ... قليلو الإحترام .. أو منفتحين جدا .. أو لايهتمون بالذوق والإتيكيت .. ذلك مقبول جدا منهم ... أما نحن فغير مقبول إطلاقا أن نفعل ذلك ...حتى وانا صغيره كنت أشعر كثيرا بالضعف .... فأمي وأبي ينقادون جدا جدا لكلام الناس ... ولايحتمل أي احد منهم اي نقد سلبي تجاه العائله ... شعرت بأني ضعيفه للغايه ... فربط حياتي بكلام الناس او رأي الناس عني ... يجعلني بلا شخصيه .... يجعلني تحت رحمه الناس .. فأي تعليق عني حينها سيكون هو المتحكم في حياتي ... فإن قال الناس عني بأني مزعجه فهذا يعني في نظر امي وابي بأني مزعجه ... وان كنت غير ذلك ...
فكلام الناس هو المتحكم في النهايه ...
أمي دقيقه إلى حد كبيير ... تحب أن يكون كل شيء مثاليا ... فحتى بالمدرسه .. لايعجبها أي نقص بسيط في العلامات الدراسيه ... ولاأي خطأ بسيط .. لاتريد إلا العلامات الكامله .. لاتحب إلا أن ترى النجاحات العاليه ... دقتها في تعليم اخوتي وتعليمي في المدرسه ... جعل منا متفوقين كثيرا في الدراسه ..
فأخوتي كلهم يمتلكون شهادات عاليه ... لكن الفرق بيني وبينهم .. هو أن تفوقهم كان هادئ غير ملاحظ .. أما تفوقي كان واضحا .. ظاهرا للجميع ....
تأسيس أمي الدراسي كان متمهل .. بصبر طويل ... دقيق وعميق ... تسجلنا في كثير من الدورات ...تذاكر لنا كثيرا ...
وتطلب لنا معلمين خصوصين عند الحاجه ...
أمي مستعده لفعل أي شيء ... المهم أن نكون أشخاصا ناجحين ...
في أعماقي كنت أكره الدراسه بشكل كبير .. فإني أعلم بأنني ان لم اخذ العلامات الكامله فإن أمي سيصيبها الإستياء .... رغم أن امي كانت لينه جداا في التعامل ... ودوده ... لاتفعل أي شيء ولكن شعورها بالزعل والإحباط الكبير عندما ترى أي نقص يجعلني أشعر بحزن كبير ... فالدراسه مهمه جدا جدا بالنسبه لها ...
لطالما تمنيت أن أرى أمي سعيده وراضيه دائما ...
كنت أشعر بالضغط ... في داخلي أشعر أني مجبره .. فيجب ان اكون مجتهده بالدراسه وألا فأمي لن تكون سعيده ... كرهت الدراسه بشده ...
حتى بالمدرسه .. منذ بدايه دخولي لها .. كنت هادئه جداا ولست كبقيه الأطفال ... لم أكن أكسر .. ولم أكن أشاغب ..ولم أكن أتجاوز الكرسي الذي بمكاني .. ولاأصدر أي إزعاج كبقيه من هم بالصف .. بل أكره إزعاج الأطفال الذي لاينتهي ... فعالمي هادئ جدا ..
تغيضني كلمه هيا ياأطفال من أستاذه الصف .. فلا أشعر بأني طفله ابدااا .. بل امرأه راشده .. فأمي كانت دائما تعاملني وتتحدث معي كما تتعامل وتتحدث مع الكبار .. وليس مع الأطفال .. كنت أميل دائما الى مصادقه من هم أكبر مني سنا بكثير .... فمن هم في مثل سني تفكيرهم محدود .. وليس كتفكيري .. ولازلت ... أميل إلى من هم أكبر سنا مني بكثير ... أو الذين هم في مثل عمري ولكنهم أذكياء ... تفكيرهم واسع ودقيق ومنتبه في الحياه .....
كانت أمي عندما نرفض إحدى طلباتها .. تقول بإنفعال .. كل الناس حياتها هادئه وكل أم يطيعها أبناءها إلا أنتم ... لما أنا مختلفه عن كل الناس ...
شعرت في داخلي بأننا غير طبيعيين ... وبأننا أشخاص مختلفون عن هذا العالم ...
كنت أرى أمي وهي تعمل بالمدرسه .. مبتسمه دائما.. ملامحها مريحه .. مشرقه ...بلباس مرتب .. بسيط ومتواضع.. تسرح شعرها للوراء بطريقه جديه .. لاتضع المكياج..يكسو ملامحها الطمأنينه والوقار والسكينه.. من يرى كميه الطمأنينه والراحه التي تعلو ملامحها لايصدق بأنها تعاني من أي مشاكل في حياتها . ...
لدى أمي قوانين صارمه ... صارمه جداااا ... لم أجرؤ يوما على تجاوزها ... فأمي لاتتنازل ابدا فيما يخص المبادئ والقوانين. .
في داخلي ..... لاأستطيع مقاومه كل شخصيه شماليه شرقيه أراها في حياتي ..... فهم جذابون جداا .. إنهم يذكرونني بأمي ....
كان البقاء في بيت أهلي متعبا مع أطفالي .. فلم يبقى أحد في البيت لم يتشاجرو معه .. ولم تبقى فوضى لم يحدثوها ... زادت مشاغبتهم .. جننو العالم ... يتنقلون من شخص إلى آخر ....وكانو يتشاجرون يوميا مع أختي بالذات ..
رغم أنها وللغرابه الشديده من أقرب الناس لهم ..
كان ذلك يشكل ضغطا بالنسبه لي ...
كنت أخرج من البيت للمواعيد وعقلي مشغول بهم .. وأخاف دائما بأن يغضب منهم أي أحد في بيت أهلي .. أو يصرخ عليهم ... أو يضربهم أو يلقي عليهم أي كلمه ... فلصبر الأشخاص حدود...أعلم بأنهم المخطئين .. لكن لاأحتمل ذلك ...
لاأحتمل أن أرى أي شخص يتعرض لأطفالي بأي سوء بسيط ... ولو كان أعز الأشخاص بالنسبه لي..لم أستطع النوم بشكل جيد في بيت أهلي .. يجب أن أكون مستعده لحمايه أطفالي من غضب أي أحد تجاههم ... أراقبهم دائما .. طوال اليوم ...
لست أبالغ..
فأمي كانت تتصرف مع اخوتي هكذا......
سمعت صوت أمي العالي وهي تتحدث مع أطفالي...
كانت أمي تحاول منعهم من المجيئ إلي وإزعاجي ..
خرجت من الغرفه لأخذهم ... قالت أمي : دعيهم ..الأمر بيني وبينهم .. لاشأن لك ...
نهضت أمي وقالت بغضب : سأخذكم للتنزه في حديقه قريبه ... ثم وجهت كلامها لي قائله : أذهبي لتنامي قبل أن يستيقظ الصغير ..
قلت لأمي : دعيهم في البيت .. تجاهليهم .. ولكن الأطفال تمسكو بأمي رافضين كلامي ....
ثم خرجو ...
أستلقيت على السرير .. أتفحص هاتفي .. أرسل لي زوجي صوره بطاقه العائله الجديده .... ثبت إسم الصغير على البطاقه بشكل رسمي .... شعرت بغضب كبير .... كنت أخبره مرارا بأني أكره هذا الإسم بشده .. ولم أتقبله ... لم يرق لي إطلاقا ... إسم نطقه ثقيل على اللسان ... سبحان الله ... أي شيء معقد في الحياه لاأستسيغه ...
أختار أسماء أبناءه بنفسه... لم يعجبني أي إسم من أسمائهم ... كنت في الماضي أذكره دائما بأنه لم يستشرني ولم يأخذ برأيي في أسماء ابنائي ... أذكره بذلك لسنين طويله .. وفي كل شجار لادخل له بهذا الموضوع كنت أذكره بذلك ... كنت أعتقد بل جازمه بأنه في هذه المره سيجعلني أختار .... لكني صدمت بأنه لم يفعل ذلك ........ ذلك يشعرني بالغضب وبالإهانه .... إنه لايأخذ برأيي .. إنه لايحترمني ....
بسرعه كبيره حدثته بغضب وأعطيته بلوك على الفور..... لن أتحدث معه طوال فتره النفاس ... ولاأريد أن أراه ولاأن أسمع صوته ..
بعد ساعتين تذكرت بيأس بأني لاأستطيع فعل ذلك ... فيجب أن اسأله يوميا عن جدول المواعيد القادم ... ويجب أن أراه يوميا لأنه من سيقوم بإيصالي إلى المشفى .....
أتصل بعد ساعات وقمت بالرد عليه بغضب : نعم .ماذا تريد،، .... أخبرني ببرود بأن أمه ستحضر بعد قليل ...
حضر هو ووالدته .... كنت طبيعيه ... وعاديه ... فمن عادتي بأن لاأخبر أحدا شيئا عن حياتي ولاأن أبين أي شيء عن مشاعري ....
أما زوجي .. فكان يتصرف نفس التصرف .... فهو دائما يظهر لأمه بأنه الزوج المثالي والأب المثالي ... ويبين لها بأن حياته دائما على مايرام ... ودائما يؤكد لها بأنه يهتم بالصغير وبعلاجه ..
فرأي أمه مهم جدا بالنسبه له ... قبل أن تغادر أم زوجي سألتني : متى ستعودين لبيتك ؟! ... ثم قالت بإستنكار كبير هل ستبقين أربعين يوما هنا ؟!
نظرت إليها وأنا أحاول أن أكون طبيعيه ... فهي تحدثت عن موضوع حساس جدا في حياتي ... قلت لها بأسلوب ساخر مرح .. : لماذا .. هل مللت من الطبخ لإبنك ...؟! نظرت أم زوجي بإبتسامه محرجه وصمت .. كنت في داخلي أعلم بأني لو أخبرتها بأن إبنها هو من يرفض عودتي ... فإنها سترغمه على ذلك ... وهو لن يجرؤ على قول لا لها .... لكن حبي للخصوصيه .... وكرهي الشديد لأن يتدخل أحد في حياتي ....
وكبريائي الذي يجعلني أشعر بالضعف أذا استعنت بأمه لينفذ طلبي ..... يمنعني من فعل ذلك ...
مرت الأيام بطيئه .... كلها شجارات وعراك ...
فأمي متعبه جدا .. ضغط ...
أطفالي يزعجون العالم وأنا وأمي وراءهم طوال الوقت .. ضغط
الصغير لاينام ويحتاج لكثير من العنايه والتمارين..ضغط ..
المواعيد الممله التي لاتنتهي ..ضغط ..
المذاكره معهم والواجبات الكثيره ضغط ..
كنت أطلب من زوجي بأن يأخذ الأطفال معه يومين في الأسبوع ... يومي الإجازه ... كان يتصل ويسألني هل تريدين أن أحضر لك الأطفال ؟! فأجيبه بلا في كل مره ...
أكتشفت فيما بعد بأنه يفتح السبيكر أمام أطفاله ليسمعهم رفضي لعودتهم .. ويقول لهم أمكم لاترغب بكم ..
لاأعرف لماذا يفعل ذلك ..ربما ردا لكلامي عندما أقول له دائما ... أنظر كيف ان الأطفال يلاحقونني طوال اليوم أينما أذهب ... ومتعلقين بي بشده ... بينما يرفضون الذهاب معك إلى أي مكان ....