بين أيدينا الآن حدث من الأحداث المهمَّة جدًّا في تاريخ المسلمين؛ بل في تاريخ الأرض بصفة عامَّة.. وهو حدث ظهور قوَّة جديدة رهيبة على سطح الأرض في القرن السابع الهجري، وقد أدَّى ظهور هذه القوَّة إلى تغييرات هائلة في الدنيا بصفة عامَّة، وفي أرض الإسلام بصفة خاصة.
تلك القوَّة هي «دولة_التتار»!
وقصَّة التتار عجيبة حقًّا؛ عجيبة بكل المقاييس، ولولا أنها مُوَثَّقة في كل المصادر -وبصورة تكاد تكون متطابقة في كثير من الأحيان- لقلنا: إنها خيال، أو #أغرب_من_الخيال.
القصَّة عجيبة لأن التغيير فيها من ضعف إلى قوَّة، أو من قوَّة إلى ضعف لم يأخذ إلا وقتًا يسيرًا جدًّا؛ فما هي إلا أعوام قليلة جدًّا حتى يُعِزَّ الله دولة ويُذِلَّ أخرى، ثم تمرُّ أعوام أخرى قليلة فيُذِلُّ الله عز وجل الأولى ويُعِزُّ الأخرى!
والقصَّة عجيبة -أيضًا- للمبالغة الشديدة في الأحداث: المبالغة في الأرقام في كل حدث؛ المبالغة في أعداد القتلى، وفي أعداد الجيوش، وفي أعداد المدن المنهارة، وفي مساحات البلاد المحتلَّة، وفي أعداد الخيانات وأسلوبها.
===================================
- بداية_ظهور_دولة_التتار -:
ظهرت دولة التتار في سنة (603هـ=1206م) تقريبًا، وكان ظهورها الأول في «منغوليا» في شمال الصين، وكان أول زعمائها هو «جنكيزخان[1]»[2].
و«جنكيزخان» كلمة تعني: قاهر العالم، أو ملك ملوك العالم، أو القوي.. حسب الترجمات المختلفة للغة المنغولية، واسمه الأصلي «تيموجين»، وكان رجلًا سفاكًا للدماء، وكان كذلك قائدًا عسكريًّا شديد البأس، وكانت له القدرة على تجميع الناس حوله، وبدأ في التوسُّع تدريجيًّا في المناطق المحيطة به، وسرعان ما اتَّسعت مملكته؛ حتى بلغت حدودها من كوريا شرقًا إلى حدود الدولة الخُوارِزمية الإسلامية غربًا، ومن سهول سيبريا شمالًا إلى بحر الصين جنوبًا، أي أنها كانت تضم من دول العالم حاليًّا: (الصين، ومنغوليا، وفيتنام، وكوريا، وتايلاند، وأجزاء من سيبيريا، وذلك إلى جانب مملكة لاوس، وميانمار، ونيبال، وبوتان).
===================================
ويُطلق اسم التتار -وكذلك المغول- على الأقوام الذين نشئوا في شمال الصين في صحراء «جوبي»، وإن كان التتار هم أصل القبائل بهذه المنطقة، ومن التتار جاءت قبائل أخرى مثل قبيلة «المغول»، وقبائل «الترك» و«السلاجقة» وغيرها، وعندما سيطر «المغول» -الذين منهم جنكيزخان- على هذه المنطقة أُطلق اسم «المغول» على هذه القبائل كلها.
وكان للتتار ديانة عجيبة، هي خليط من أديان مختلفة؛ فقد جمع جنكيزخان بعض الشرائع من الإسلام، والمسيحية، والبوذية، وأضاف من عنده شرائع أخرى، وأخرج لهم في النهاية كتابًا جعله كالدستور للتتار؛ وسمى هذا الكتاب بـ«الياسك» أو «الياسة» أو «الياسق»[3].
- وكانت حروب التتار تتَّسم بأشياء خاصَّة جدًّا؛ مثل:
1- سرعة انتشار مُدهشة.
2- نظام محكم وترتيب عظيم
3- أعداد ضخمة من البشر.
4- تَحَمُّل ظروف قاسية.
5- قيادة عسكرية بارعة.
6- أنهم بلا قلب!
فكانت حروبهم حروب تخريب غير طبيعية؛ فكان من السهل جدًّا أن ترى في تاريخهم أنهم دخلوا مدينة كذا أو كذا فدمَّرُوا كل المدينة وقتلوا سُكانها جميعًا؛ لا يُفَرِّقُون في ذلك بين رجل وامرأة، ولا بين رضيع وشاب، ولا بين صغير وشيخ، ولا بين ظالم ومظلوم، ولا بين مَدني ومحارب! إبادة جماعية مرعبة، وطبائع دموية لا تصل إليها أشدُّ الحيوانات شراسة.
وكما يقول الموفَّق عبد اللطيف[4] في خبر التتار: «وكأن قصدهم إفناء النوع، وإبادة العالم، لا قصد الملك والمال»[5].
7- رفض قبول الآخر، والرغبة في تطبيق مبدأ «القطب الواحد»! فليس هناك طرح للتعامل مع دول أخرى محيطة؛ والغريب أنهم كانوا يتظاهرون -دائمًا- بأنهم ما جاءوا إلاَّ ليُقيموا الدين، ولينشروا العدل، وليُخَلِّصُوا البلاد من الظالمين!
8- أنهم لا عهد لهم؛ فلا أيسر عندهم من نقض العهود وإخلاف المواثيق.. {لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً}[التوبة: 10]، كانت هذه صفة أصيلة مُلازمة لهم، لم يتخلَّوْا عنها في أي مرحلة من مراحل دولتهم منذ قيامها إلى أن سقطت.
===================================
هذه هي السمات التي اتَّصف بها جيش التتار، وهي صفات تتكرَّر كثيرًا في كل جيش لم يضع في حسبانه قوانين السماء وشريعة الله عز وجل؛ فالذي يملك القوَّة ويفتقر إلى الدين لا بُدَّ أن تكون هذه صورته؛ قد يتفاوتون في الجرائم والفظائع، لكنهم في النهاية مجرمون.
كانت حروب المرتدِّين قريبًا من هذا، كذلك حروب الفرس، وكذلك كانت حروب الرومان، وكذلك كانت حروب الصليبيين في الشام ومصر، وكذلك كانت حروب الصليبيين في الأندلس، ثم سار على طريقتهم بعد ذلك أتباعهم من المستعمرين الإسبان والبرتغال والإنجليز والفرنسيين والطليان واليهود.. ثم الأميركان!
قد يختلف الشكل الخارجي، وقد تختلف الوجوه والأجسام، لكنَّ القلوب واحدة؛ حقد وضغينة وشحناء وبغضاء على كل ما هو مسلم، أو كل ما هو حضاري.
وسبحان الله! إذ يقول في حقهم جميعًا: {أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ}[الذاريات: 53].
وهنا يتوقف الباص عند بداية ظهور التتار , وسوف يتحرك في الحلقة القادمة ونذهب للبلاد الإسلامية ونعرف كيف كان وضع بلاد الإسلام وقت ظهور التتار
"(ٍسبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك) "
الحلقة [2]
ظهرت قوَّة التتار في أوائل القرن السابع الهجري، ولكي نفهم الظروف التي نشأت فيها هذه القوَّة لا بُدَّ من إلقاء نظرة على واقع الأرض في ذلك الزمان.
والناظر إلى الأرض في ذلك الوقت يجد أن القوى الموجودة كانت متمثِّلة في فئتين رئيستين: الصليبيين والأمة الإسلامية، وفي هذا المقال نعرض الوضع الإسلامي وقت ظهور التتار.
المساحات الإسلامية في هذا الوقت كانت تقترب من نصف مساحة الأراضي المعمورة في الدنيا؛ كانت حدود البلاد الإسلامية تبدأ من غرب الصين، وتمتدُّ عبر آسيا وإفريقيا لتصل إلى غرب أوربا؛ حيث بلاد الأندلس..
وهي مساحة شاسعة للغاية، لكن وضع العالم الإسلامي –مع الأسف الشديد- كان مؤلمًا جدًّا؛ فمع المساحات الواسعة من الأرض، ومع الأعداد الهائلة من البشر، ومع الإمكانيات العظيمة من المال والمواد والسلاح والعلوم -مع كل هذا فإنه كانت هناك فُرقة شديدة في العالم الإسلامي، وتدهور كبير في الحالة السياسية لمعظم الأقطار الإسلامية، والغريب أن هذا الوضع المؤسف كان بعد سنوات قليلة من أواخر القرن السادس الهجري؛ حيث كانت أُمَّة الإسلام قوية منتصرة متحدة رائدة.. ولكن هذه سُنة ماضية: {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران: 140].
====================================
ولنُلْقِ نظرة على العالم الإسلامي في أوائل القرن السابع الهجري:
• #الخلافة_العباسية:
ضعفت جدًّا، حتى أصبحت لا تُسيطر حقيقة إلا على العراق، وتتخذ من بغداد عاصمة لها منذ سنة (132هـ)، وحول العراق عشرات من الإمارات المستقلَّة استقلالاً حقيقيًّا عن الخلافة، وإن كانت لا تُعلن نفسها كخلافة منافسة للخلافة العباسية.. فتستطيع أن تقول: إن الخلافة العباسية كانت «صورة خلافة» وليست خلافة حقيقية.. وكانت الرمز الذي يحب المسلمون أن يظلَّ موجودًا؛ حتى إن لم يكن له دور يُذكر؛ تمامًا كما يُبقي الإنجليز الآن على ملكة إنجلترا رمزًا تاريخيًّا فقط، دون دور يُذكر لها في الحُكم، بخلاف الخليفة العباسي الذي كان يحكم فعليًّا منطقة العراق باستثناء الأجزاء الشمالية منها.
كان يتعاقب على حُكم المسلمين في العراق خلفاء من بني العباس.. حملوا الاسم العظيم الجليل: «الخليفة»، ولكنهم -في هذه الفترة من القرن السابع الهجري- ما اتصفوا بهذا الاسم قطُّ، ولا رغبوا أساسًا في الاتصاف به؛ فلم يكن لهم من همٍّ إلا جمع المال، وتوطيد أركان السلطان في هذه الرقعة المحدودة من الأرض، ولم ينظروا نظرة صحيحة قط إلى وظيفتهم كحكام، لم يُدركوا أن من مسئولية الحاكم أن يُوَفِّر الأمان لدولته، ويُقَوِّي من جيشها، ويرفع مستوى المعيشة لأفراد شعبه، ويحكم في المظالم، ويردَّ الحقوق لأهلها، ويُجير المظلومين، ويُعاقب الظالمين، ويُقيم حقَّ الله عز وجل على العباد، ويأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، ويُدافع عن كل ما يتعلَّق بالإسلام، ويُوَحِّد الصفوف والقلوب.
لم يُدركوا هذه المهام الجليلة للحاكم المسلم، كل ما كانوا يُريدونه فقط هو البقاء أطول فترة ممكنة في كرسي الحكم، وتوريث الحكم لأبنائهم، وتمكين أفراد عائلتهم من رقاب الناس، وكذلك كانوا يحرصون على جمع الأموال الكثيرة، والتحف النادرة، ويحرصون على إقامة الحفلات الساهرة، وسماع الأغاني والموسيقى والإسراف في اللهو والطرب.
حياة الحكام كانت حياة لا تصلح أن تكون لفرد من عوامِّ أُمَّة الإسلام؛ فضلاً عن أن تكون لحاكم أُمَّة الإسلام!
لقد ضاعت هيبة الخلافة.. وتضاءلت طموحات الخليفة!
====================================
• #مصر_والشام_والحجاز_واليمن:
كانت هذه الأقاليم في أوائل القرن السابع الهجري في أيدي الأيوبيين حَفَدة صلاح الدين الأيوبي، ولكنهم –مع الأسف- لم يكونوا على شاكلة ذلك الرجل العظيم؛ بل تنازعوا الحكم فيما بينهم، وقسَّموا الدولة الأيوبية الموحَّدة -التي هزمت الصليبيين في معركة حطين هزيمة منكرة- إلى ممالك صغيرة متناحرة! فاستقلَّت الشام عن مصر، واستقلَّت كذلك كلٌّ من الحجاز واليمن عن الشام ومصر؛ بل قُسِّمَت الشام إلى إمارات متعدِّدة متحاربة! فانفصلت حمص عن حلب ودمشق.. وكذلك انفصلت فلسطين والأردن، وما لبثت الأراضي التي حرَّرها صلاح الدين من أيدي الصليبيين أن تقع من جديد في أيديهم بعد هذه الفُرقة، ولا حول ولا قوَّة إلاَّ بالله العلي العظيم!
====================================
• #بلاد_المغرب_والأندلس:
كانت تحت إمرة «دولة الموحدين»، وقد كانت فيما سبق دولة قوية مترامية الأطراف تحكم مساحة تمتدُّ من ليبيا شرقًا إلى المغرب غربًا، ومن الأندلس شمالاً إلى وسط إفريقيا جنوبًا، ومع ذلك ففي أوائل القرن السابع الهجري كانت هذه الدولة قد بدأت في الاحتضار؛ خاصةً بعد موقعة «العِقَاب» الشهيرة سنة (609هـ=1213م)، التي كانت القاضية على هذه الدولة الضخمة.. دولة الموحدين.
====================================
• #خُوارِزم:
كانت الدولة الخُوارِزمية دولة مترامية الأطراف، وكانت تضمُّ معظم البلاد الإسلامية في قارة آسيا؛ تمتدُّ حدودها من غرب الصين شرقًا إلى أجزاء كبيرة من إيران غربًا، وكانت هذه الدولة على خلاف كبير مع الخلافة العباسية، وكانت بينهما مكائد ومؤامرات متعدِّدة، ومالت الدولة الخُوارِزمية في بعض فترات من زمانها إلى التشيع، وكثرت فيها الفتن والانقلابات، وقامت في عصرها حروب كثيرة مع السلاجقة والغوريين والعباسيين وغيرهم من المسلمين.
====================================
• #الهند:
كانت تحت سلطان الغوريين في ذلك الوقت، وكانت الحروب بينهم وبين دولة خُوارِزم كثيرة ومتكرِّرة.
====================================
• #فارس:
وهي إيران الحالية، وكانت أجزاء منها تحت سلطان الخُوارِزميين، وكانت الأجزاء الغربية منها -والملاصقة للخلافة العباسية- تحت سيطرة طائفة الإسماعيلية، وهي طائفة من طوائف الشيعة كانت شديدة الخبث، ولها مخالفات كثيرة في العقيدة؛ جعلت كثيرًا من العلماء يُخرجونهم من الإسلام تمامًا، خلطت طائفة الإسماعيلية الدين بالفلسفة، وكانوا من أبناء المجوس؛ فأظهروا الإسلام وأبطنوا المجوسية، وتأوَّلوا آيات القرآن على هواهم، وهم إحدى فرق الباطنية، الذين يؤمنون بأن لكل أمر ظاهر في الدين أمرًا آخر باطنًا خفيًّا لا يعلمه إلاَّ بعض الناس (وهم من أولئك الناس)، ولا يُطلعون أحدًا على تأويلاتهم، إلا الذين يدخلون معهم في ملتهم، وهم يُنكرون الرسل والشرائع، ومن أهم مطالبهم «الملك والسلطان»؛ لذلك فهم مهتمون جدًّا بالسلاح والقتال.
وعلى العموم، فإن «الإسماعيلية» من أخطر طوائف الباطنية، وقد كانت سببًا دائمًا لتحريف العقيدة والدين، ولقلب أنظمة الحكم الإسلامية، ولاغتيال الشخصيات الإسلامية البارزة؛ سواء كانوا خلفاء أو أمراء أو علماء أو قوادًا.
====================================
• #الأناضول (تركيا):
وهذه المنطقة كانت تُحكم بسلاجقة الروم، وأصول السلاجقة ترجع إلى الأتراك، وكان لهم في السابق تاريخ عظيم وجهاد كبير؛ وذلك أيام القائد السلجوقي المسلم الفذ «ألب أرسلان»، ولكن -مع الأسف- الحَفَدَة الذين كانوا يحكمون هذه المنطقة الحسَّاسة والخطيرة والملاصقة للإمبراطورية البيزنطية كانوا على درجة شنيعة من الضعف؛ أدَّت إلى مواقف مؤسفة من الذلِّ والهوان.
====================================
فهذه نظرة على الأُمَّة الإسلامية في ذلك الوقت..
ونلاحظ أنه قد انتشرت فيها الفتن والمؤامرات، وتعدَّدت فيها الحروب بين المسلمين وإخوانهم في الدين، وكثرت فيها المعاصي والذنوب، وعمَّ الترف والركون إلى الدنيا، وهانت الكبائر على قلوب الناس؛ حتى كثر سماع أن هذا ظَلَمَ هذا، وأن هذا قَتَلَ هذا، وأن هذا سَفَكَ دم هذا.. يقال هذا الكلام بدم بارد، وكأن الأرواح التي تُزهق ليست بأرواح بشر!
وقد عُلم على وجه اليقين أن مَنْ كان هذا حاله فلا بُدَّ من استبداله!
وأصبح العالم الإسلامي ينتظر كارثة تقضي على كل الضعفاء في كل هذه الأقطار؛ ليأتي بعد ذلك جيل من المسلمين يُغَيِّر الوضع، ويُعيد للإسلام هيبته، وللخلافة قوتها ومجدها.
وهنا يتوقف الباص عند البلاد الإسلامية التي اصبحت ضعيفه في هذا العصر , وسوف يتحرك في الحلقة القادمة ونذهب لوضع الصليبين وقت ظهور التتار ,
"(ٍسبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك) "
ظهرت قوَّة التتار في أوائل القرن السابع الهجري، بشكل همجي دموي، و قد تحدثنا في مقال الوضع الإسلامي وقت ظهور التتار عن الأمة الإسلامية في ذلك الوقت وكيف أنها قد أصابها الوهَن بعد المنعة، و الضعف بعد قوة، فأصبحت مُهيئة لأي احتلال، و في هذا المقال نتحدث عن القوَّة الثانية في الوقت نفسه، و هي قوَّة الصليبيين.
كان المركز الرئيسي لهم في غرب أوربا؛ حيث لهم أكثر من معقل، و قد انشغلوا بحروب مستمرَّة مع المسلمين؛ فكان نصارى إنجلترا و فرنسا و ألمانيا و إيطاليا يقومون بالحملات الصليبية المتتالية على بلاد الشام و مصر، و كان نصارى إسبانيا و البرتغال و أيضًا فرنسا في حروب مستمرَّة مع المسلمين في الأندلس.
إضافة إلى هذا التجمُّع الصليبي الضخم في غرب أوربا كانت هناك تجمُّعات صليبية أخرى في العالم، و كانت هذه التجمُّعات أيضًا على درجة عالية من الحقد على الأُمَّة الإسلامية، و كانت الحروب بينها و بين العالم الإسلامي على أشدِّها،
وكانت أشهر هذه التجمُّعات كما يلي:
• - الإمبراطورية_البيزنطية - :
و حروبها مع الأُمَّة الإسلامية شرسة و تاريخية؛ و لكنها كانت في ذلك الوقت في حالة من الضعف النسبي و التقلُّص في القوَّة و الحجم؛ فلم يكن يأتي من جانبها خطر كبير، وإن كان الجميع يعلم قدر الإمبراطورية البيزنطية.
• - مملكة_أرمينيا - :
و كانت تقع في شمال فارس و غرب الأناضول، و كانت أيضًا في حروب مستمرَّة مع المسلمين، خاصة السلاجقة.
• - مملكة_الكُرْج- :
وهي دولة جورجيا حاليًّا، و لم تتوقَّف الحروب كذلك بينها و بين أُمَّة الإسلام، و تحديدًا مع الدولة الخُوارِزمية.
• - الإمارات_الصليبية_في_الشام_وفلسطين_وتركيا:
و هذه الإمارات كانت تحتلُّ هذه المناطق الإسلامية منذ أواخر القرن الخامس الهجري؛ بدءًا من سنة (491هـ=1098م).
فعلى الرغم من انتصارات صلاح الدين الأيوبي على القوات الصليبية في حطين و بيت المقدس و غيرهما؛ فإن هذه الإمارات ما زالت باقية، بل و كانت من آن إلى آخر تعتدي على الأراضي الإسلامية المجاورة غير المحتلَّة، و كانت أشهر هذه الإمارات: أنطاكية و عكا و طَرَابُلُس و صيدا و بيروت ..
و هكذا استمرَّت الحروب في معظم بقاع العالم الإسلامي تقريبًا، و زادت جدًّا ضغائن الصليبيين على أُمَّة الإسلام.
و شاء الله سبحانه وتعالى أن تكون نهاية القرن السادس الهجري سعيدة جدًّا على المسلمين، و تعيسة جدًّا على الصليبيين؛ فقد أَذِنَ الله عز وجل في نهاية القرن السادس الهجري بانتصارين جليلين لأُمَّة الإسلام على الصليبيين؛ فقد انتصر البطل العظيم صلاح الدين الأيوبي على الصليبيين في موقعة حطين في الشام، و ذلك في عام (583هـ=1187م)، و بعدها بثماني سنوات فقط انتصر البطل الإسلامي الجليل المنصور الموحِّدي زعيم دولة الموحدين على نصارى الأندلس في موقعة الأرك الخالدة في سنة (591هـ=1195م).
و على الرغم من هذين الانتصارين العظيمين؛ فإن المسلمين في أوائل القرن السابع الهجري كانوا في ضعف شديد؛ و ذلك بعد أن تفكَّك شمل الأيوبيين بوفاة صلاح الدين الأيوبي، و كذلك انفرط عِقْدُ المُوحِّدين بعد وفاة المنصور الموحِّدي، غير أن الصليبيين كانوا كذلك في ضعف شديد لم يُمَكِّنهم من السيطرة على البلاد المسلمة، و إن كانت رغبتهم في القضاء عليها قد زادت.
كان هذا هو وضع العالم في أوائل القرن السابع الهجري.
• - قوَّة_الأُمَّة_الإسلامية - :
و هي قوَّة ذات تاريخ عظيم، و أمجاد معروفة؛ لكنها تمرُّ بوقت من أوقات ضعفها، و هذا الضعف و إن كان شديدًا؛ فإنه لم يُسقط هيبة الأُمَّة تمامًا؛ لأن أعداءها كانوا يعلمون أن أسباب النصر و عوامل القوَّة مزروعة في داخل الأُمَّة، و إنما تحتاج فقط إلى مَنْ يستخرجها وينميها.
• - قوَّة_الصليبيين - :
وهم وإن كانوا -أيضًا- في حالة ضعف، و في حالة تخلُّف علمي و حضاري شديد موازنة بالأُمَّة الإسلامية؛ فإنهم قوَّة لا يستهان بها؛ و ذلك لكثرة أعدادهم، و شدَّة حقدهم، و إصرارهم على استكمال المعركة مع المسلمين إلى النهاية؛ و صدق الله العظيم إذ يصفهم بقوله: "وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا "
و كانت قوَّة الإسلام وقوَّة الصليبيين -في ذلك الوقت- تمثلان معًا قوَّة العالم القديم ..
و بينما كان هذا هو حال الأرض في ذلك الوقت، ظهرت قوَّة جديدة ناشئة قلبت الموازين، و غيَّرت من خريطة العالم، و فرضت نفسها كقوَّة ثالثة في الأرض؛ أو تستطيع أن تقول: إنها كانت القوَّة الأولى في الأرض في النصف الأول من القرن السابع الهجري.
هذه القوَّة هي قوَّة دولة التتار أو المغول!
و قد أدَّى ظهور هذه القوَّة إلى تغيرات هائلة في الدنيا بصفة عامَّة، و في أرض الإسلام بصفة خاصة.
فهي قوَّة همجية بشعة.. قوَّة بلا تاريخ، ظهرت فجأة، و ليس عندها مخزون ثقافي أو حضاري أو ديني يسمح لها بالتفوُّق على غيرها؛ فكان لا بُدَّ لها من الاعتماد على القوَّة الهمجية و الحرب البربرية لفرض سطوتها على مَنْ حولها.
ومن سُنَّة الله عز وجل أن يحدث الصراع بين القوى المختلفة، و التدافع بين الفرق المتعدِّدة.. و من سُنَّة الله عز وجل كذلك أن الأقوياء المفتقرين إلى الدين لا يقبلون بوجود الضعفاء إلى جوارهم.. ومن سُنَّة الله عز وجل كذلك أنَّ الباطل -مهما تعدَّدت صوره- لا بُدَّ أن يجتمع لحرب الحقِّ.. و من سُنَّة الله عز وجل كذلك أن الحرب بين الحقِّ و الباطل لا بُدَّ أن تستمرَّ إلى يوم القيامة.
إذا وضعنا كل هذه السُنن في أذهاننا؛ فإننا يجب أن نتوقَّع تعاونًا بين التتار والصليبيين -على اختلاف توجُّهَاتهم و سياستهم و نظرياتهم- لحرب المسلمين.
و هذا -سبحان الله- ما حدث بالضبط!
أرسل الصليبيون و فدًا رفيع المستوى من أوربا إلى منغوليا - مسافة تزيد على اثني عشر ألف كيلو متر ذِهابًا فقط! - يُحَفِّزُونهم على غزو بلاد المسلمين، و على إسقاط الخلافة العباسية، و على اقتحام بغداد درَّة العالم الإسلامي في ذلك الوقت، و عظَّمُوا لهم جدًّا من شأن الخلافة الإسلامية، و ذكروا لهم أنهم -أي الصليبيين - سيكونون عونًا لهم في بلاد المسلمين، وعينًا لهم هناك، وبذلك تم إغراء التتار إغراءً كاملاً.
وقد حدث ما توقَّعه الصليبيون.. سال لُعاب التتار لأملاك الخلافة العباسية، و قرَّرُوا فعلاً غزو هذه البلاد الواسعة الغنية بثرواتها المليئة بالخيرات؛ هذا مع عدم توافق التتار مع الصليبيين في أمور كثيرة؛ بل ستدور بينهم بعد ذلك حروب في أماكن متفرِّقَة من العالم، و لكنهم إذا واجهوا أُمَّة الإسلام، فإنهم يُوَحِّدون صفوفهم لحرب الإسلام و المسلمين، و هذا الكلام ليس غريبًا، بل هو من الطُرق الثابتة لأهل الباطل في حربهم مع المسلمين.