الرسم عزائي
فاطمة شابة في الثانية عشر من عمرها، تحب التملك، وعدوانية مستواها الدراسي منخفض، من النوع المشاكس مع المقربين لها، سبب ذلك هو انفصال الوالدين عن بعضهما البعض، وأثر هذا الانفصال انقلب حالها رأسا على عقب فالجدة تولت تربيتها، وبرغم كبر سنها إلا إنها استطاعت أن تعوض حنان الأم والأب في نفس الوقت، ولكن الطالبة فاطمة لم تستطع أن تنسى فراق الأم والأب في آن واحد تقول بكلمات متلعثمة: وجودي مع أبي وأمي يشعرني بالأمان والاستقرار، ولكن هذا الشعور غير موجود، فمنذ انفصالهم شعرت بالضياع وعدم الاستقرار في حياتي، فمستواي التعليمي يوما بعد يوم يتدهور، أتعامل مع صديقاتي بجفاء، أحاول أن أفرض سيطرتي على البعض منهن، مشاغبه في الصف، كل ذلك نتيجة افتقادي لحضن والدتي الدافئ، ولملمس يدي والدي على وجنتي وهو يقبلني بكل حنان الكون، إن ابتعادهم جعلني ألجأ إلى الرسم الذي عل وعسى أن ينسيني عالمي وفقداني للأسرة وهو عزائي الوحيد في الوقت الذي أشعر فيه بحاجتي إلى أمي وأبي·
وتضيف فاطمة والحزن بادئ عليها من نبرة صوتها: صحيح أن جدتي هي التي قامت بتربيتي إلا أن ذلك لا يخفف من شعوري بالوحدة والأمان·
أما كلثم فلا تختلف كثيرا عن فاطمة فهي فتاة أنطوائية، تجلس في آخر الصف، لا تحب المشاركة، ولا تتفاعل مع المدرسات، وليس لها صديقات، توفى والدها وتزوجت أمها من رجل آخر وهى تعيش في بيت عمتها، فكلما رأت صديقاتها في المدرسة يتحدثن عن آبائهن، أو أن فلانه أحضر لها والدها هديه، أو ذهبت معه إلى التنزة في أحدى الحدائق والمراكز، تشعر بالنقص، وإنها مختلفة عن الآخرين·
تقول كلثم: ياريت لو عاد أبي إلى الدنيا، فحياتي من بعده كالظلام الدامس، كلما سمعت الآخرين يتحدثون عن والدهم، أو رأيت طالبه تمسك بيد والدها أحبس كلماتي داخل نفسي وعندها أتوقف عن الكلام·
وتتابع بدموع حارقة وبصوت خافت: أن نظرات أبي تلاحقني·· وضحكاته ترن في أذني، أشعر بالحنين إليه وبمصافحة يديه، وأمي سامحها الله تزوجت من بعد وفاة والدي وسافرت إلى أحدى الدول الخليجية لا تسأل عني أو تزورني إلا في المناسبات، وتسترجع كلثم إحدى المواقف المحزنة فتقول: انني لا أتذكر بأن أمي في يوم ما أحتضنتني، لا أذكر مرة قبلتني، ولا يوجد في ذاكرتي تاريخ لآخر قبلة كما انني لا أعرف طعم دفء حضنها أبدا، فعندما ابحث عنها لا أجدها معي بمشاعرها··كم أتوق إلى ضمها والجلوس معها، وكم أشعر بالفرح حين أعلم أنها عادت من السفر حيث أنتظر قدومها إليّ بفارغ الصبر·· وكم أحن لكلمات المدح التي تقولها لي عندما أرسم لوحة فنية·· فهي التي تشجعني على ممارسة هواياتي وهى التي تدفعني إلى الاستمرار والتفوق فيها·· وكم··وكم من ذكريات جميلة أفتقدها وأحن إليها·
ورثت العصبية
أما محمد الجابري ـ في الصف الخامس ـ فهو من النوع المشاغب والفضولي ويحب العنف ومعظم رسوماته ولوحاته توضح مدى العنف الذي أثر في حياته، فوالده من النوع العصبي ودائما يضرب أخوته من سبب أو من غير سبب، لذلك هذا المشهد كثيرا ما يتكرر في البيت وكثيرا ما يراه في مخيلته فيعبر عن هذه القسوة في لوحاته·
يقول محمد: أنا أكره أبي فهو غير حنون ولايشعرني انني ابنه، فدائما يعاملنا وكأننا لسنا أبناءه، وقد يحرجنا أمام الآخرين حتى قد يصل الأمر إلى الضرب أمام الملأ، ولا يجد حرجا في ذلك، انني أتمنى الموت وأن تبتلعني الأرض عندما أراه يضربني، ونتيجة سوء معاملته لنا فقد أثر ذلك في تحصيلي الدراسي، فكثيرا ما أضرب أصدقائي لاننى اشعر بالراحة جراء ذلك·
ويضيف: اننى لا أحب المدرسة والدراسة وأحاول كثيرا الهرب من هذا المكان الذي أعتبره كالسجن الثاني بعد البيت، وعندما يعلم والدي بهروبي مصيبتي تكون اكبر، حيث يكون مصيري في هذا اليوم هي علقة ساخنة ومبرحة وقد تترك آثارا على الجسد، وبنبرات حزينة يتنهد محمد ليقول:حاولت بين نفسي أن أقضي على هذا السلوك بالرسم الذي ينفس عن ما يجول بخاطري، ولكن ما زالت لقطات الضرب تزعجني كثيرا حتى في منامي وبمجرد أن أرسم لوحه ما أجد نفسي أشخبطها كثيرا ولا أعرف حتى مسك الريشة نتيجة الرعشة التقى تنتابني بمجرد أن أتذكر معاملة أبي لنا·
النزعة الابتكارية
تقول الأستاذة هناء أحمد طه، موجهه تربية فنية: أن الفن من الوجهة العلاجية له قدرة على تحرير النفس الداخلية من العوائق وتحطيم الأقنعة وتجنب الدفاع الذاتي، ومن بين خواصه تقليل التوترات، وإيجاد جو من الاسترخاء، وإكساب الفرد قوة تعويضية لإشباع الذات·
وتتابع الموجهة: أيضا نرى إن النزعة الابتكارية تتعلق بإحدى حاجات الإنسان الذي يولد بها ليكتشف ما حوله، كما تتضمن فتح الآفاق لاكتساب الخبرة· وفى المقابل الطفل الذي يجد نفسه غير متوافق مع الجو المدرسي وبيئته أو مع المجتمع قد يرى في طيات الرسم فرصه تحكمه من التفوق على هذه العلاقة، ويجد في التعبير الفني فرصة ليتقبل نفسه ويتفهمه جسده ويزيل من خلال هذا التعبير شيئا كبيرا من التوتر ويكتسب راحة نفسية·
وتضيف الأخصائية: لابد أن تكون هناك حاجة لتقبل الأسرة وفهم نوع العلاج بالفن حتى يكون هناك نجاح، فالأعمال الجماعية تعتبر مناخا للتكيف بين نفسية الطفل المتوترة وأقرانه، سواء كان توتره بسبب ضعف عقلي أو كان الطفل معاقا، ومن اليسير على المعالج أن يرى السلوك التلقائي بين مجموعة من الأطفال مختلفي الأعمار، ويعتمد على الاستجابات السلوكية أثناء العمل، إذا يستنتج مواقف كثيرة تساعده على العلاج، حيث يمكن التعرف على الطفل الانطوائى، أو المستقل، أو المشارك، أو المتيقظ·
بالفعل لقد أصبح اليوم الرسم أداة قيمة لفهم حالات الأطفال الانفعالية، فقد استفاد الكثير من الأخصائيين النفسيين بالمدارس في جهودهم لفهم الانفعالية لتلاميذهم، لذلك وجد الكثير من العلماء ضرورة استخدام الفن في علاج الأطفال المضطربين نفسيا، حيث يمكن لنشاط الفن أن يهيئ هؤلاء الأطفال للعلاج، كما أن الرسوم أصبحت الآن سجلا بصريا ثابتا للتعرف على مدى تقدم الطفل الذي يعانى من مشاكل نفسية أثناء العلاج، كما وجد أن الرسم بات الآن هو شكل من أشكال التنفيس يعبر الطفل من خلاله عن مشاكله، والصراعات الدفينة في شخصيته على اعتبار أن المكبوتات يمكن أن تظهر عبر الرسوم بأيسر مما يعبر عنها في كلمات·