تقطعت أنفاسها وعلت دقات قلبها لتطغى على صخب الشارع من حولها .. وهى تحاول العبور بين السيارات المسرعة .. تناورها بخفة لا يعوقها ثقل يديها المحملتين بأكياس عديدة .. فقد اعتادت على ذلك .. وصلت لبيتها أخيرا بعد عناء طويل .. مسحت العرق المتصبب على جبينها .. وأسندت أكياسها على الأرض وهى تبحث بقلق عن مفتاحها بين أغراضها العديدة داخل حقيبتها .. وجدته راقدا فى قاع الحقيبة .. تنفست الصعداء لوجوده .. فلم يكن ينقصها المزيد من التأخير .. دخلت إلى الشقة وأسرعت نحو المطبخ .. أفرغت محتويات الأكياس لتعد طعام الغذاء .. ستكون مشكلة إذا عاد ولم يجد الطعام جاهز .. سابقت عقارب الساعة التى تقترب كثيرا من موعد وصوله .. وهى تتنقل سريعا بين أرجاء المطبخ .. كادت أن تنتهى .. تفقدت الأوانى المتراصة على الموقد .. حسنا .. على النار أن تكمل البقية .. تساقط العرق غزيرا من وجهها .. فالجو يزداد حرارة قرب هذا الموقد .. خرجت إلى الردهة وألقت بجسدها المكدود على أول مقعد .. وكل أجزاءها تئن من الإرهاق .. وجفناها يسقطان طلبا لبعض الراحة .. وكادت بالفعل أن تذهب فى غفوة .. قبل أن تنتفض فزعا من مكانها .. وعيناها على عقارب الساعة .. أسرعت نحو حجرتها .. فتحت خزانتها .. بحثت عن ثوبها الوردى الذى يحبه كثيرا عليها .. أقصد الذى كان يحبه .. أين ذهب؟ .. آه .. إنه يرقد منذ أيام فى وعاء الغسيل .. فلم يأتى يوم الغسيل بعد .. بحثت عن رداء آخر .. دارت عيناها داخل الخزانة .. هذا الرداء الأحمر يكرهه بشدة فهو لا يطيق اللون الأحمر .. وهذا الرداء الأصفر يجعله يسخر منها .. إنه لا يناسب سنها .. هكذا يقول لها كما لو كانت من العجائز .. والرداء الأزرق يقفز بعمرها سنوات للأمام .. والرداء الذى فى لون زهرة البنفسج يجعلها كئيبة جدا .. و .... أرهقها التفكير .. لقد كرهت كل الألوان بسببه .. لاشىء يرضيه أبدا .. انتفضت من أفكارها على صوت مفتاح يدور فى الباب .. تخبطت بين أثوابها .. وجذبت بسرعة أحدهم .. وجدته أبيض بلا ألوان .. ارتدته سريعا .. وأسرعت نحو المرآة .. تعيد ترتيب خصلات شعرها النافرة .. وتنثر على وجهها الشاحب بعض المساحيق لتخفى إرهاقها .. وعلى جسدها بعض من العطر الذى يحبه .. أقصد الذى كان يحبه .. رسمت على وجهها ابتسامة .. وخرجت لاستقباله .. وجدته يتوسد الأريكة الوثيرة ممددا ساقيه على الطاولة المقابلة وهو يحتضن سماعة الهاتف .. مسبل العينين ويتحدث همسا .. وقفت تتأمله .. لم تعد ترى وجهه بهذه الراحة وتلك النعومة إلا عندما يتحدث فى الهاتف .. حديثا لا تسمع منه حرفا .. وإن كان قلبها يوحى لها بفكرة مخيفة لا يخطئها قلب إمرأة .. نفضت عن رأسها أفكارها .. واتجهت نحو المطبخ لتتابع الأوانى الراقدة فوق النار .. نظرت بشرود إلى سطح الإناء الساكن الذى لا يوحى بالغليان الدائر بداخله .. وإن كان حتما سيصل إليه .. ماهى إلا لحظات ويثور هو الآخر .. شردت بأفكارها أكثر .. حتى الإناء يثور على النيران المتأججة تحته .. ومابال قلبها قد استعذب الحياة فى الجحيم ولا يبالى .. يحترق بنيران أقرب الناس إليه دون أن يصرخ .. أن يتمرد .. أن يثور .. يستكين لذلك الألم الذى يسكنه .. لقد تغير كثيرا .. لم يعد ذلك الفارس الذى اخترق قلبها وأيقظه من سباته .. وحرضه على حبه .. وجعلها تحارب لأجله .. وتنزل من برجها العاجى لتحيا معه على الأرض .. نزلت كثيرا وتنازلت أكثر .. لايهم فوجوده معها يكفيها .. الآن فقط تشعر أنه يبتعد .. يتسرب من بين كفيها كحبات رمال ناعمة .. لم يعد يحب أثوابها .. ولا عطورها .. ولا ابتسامتها .. يتذمر لأتفه الأسباب .. ويختلق عشرات المشاكل ليثور فى وجهها .. ويسخر من محاولاتها لإرضاءه واستعادة بعض من عهد سعادة بائد .. لم يعد منه سوى ذكريات بعيدة .. تنهدت فى نفسها وهمت بالخروج إليه مرة أخرى .. قبل أن توقف خطواتها نبرات صوته المسموع هذه المرة .. وقفت بصمت تستمع لكلماته عبر الهاتف .. هذه الكلمات .. هذا الصوت الهادىء والنبرة الحنونة .. لكم افتقدت حديثه الحالم .. ولكن لمن هذه الكلمات .. يتغزل فى عينين غير عينيها .. يمتدح عطرا لم يلمس جسدها .. ويثنى على ثوب لم ترتديه .. ويسكب كلماته فى غير أذنيها .. ويناجى قلبا لا يسكن ضلوعها .. يالوقاحته .. كيف يجرؤ ؟! .. ألهذه الدرجة هانت عنده .. يأتى بغيرها ويزرعها فى أرجاء بيتها .. يغازلها فى وجودها .. يمسح مساحات وجودها من حياته .. ويمزق سنوات عشقها له ويلقى بها تحت أقدام غيرها .. يتجاهلها كقطعة أثاث بلا إحساس .. شعرت بالغضب يتملكها للمرة الأولى .. مشاعر ثائرة تجتاحها وتحرضها على التمرد .. على الصراخ بوجهه .. على رفض إهانته .. على رفض استكانتها وضعفها أمامه .. لن تضعف هذه المرة .. ولن يلين قلبها العاشق .. ولن تستجدى دموعها حبا وأده بيديه منذ زمن .. ولن تخسر الكثير بمواجهته .. فلم تعد تملك شيئا .. قاد الغضب خطواتها فى اتجاهه .. وتدافعت الكلمات الغاضبة لتتزاحم على طرف لسانها لتطلقها فى وجهه .. ولمعت عينيها بنيران ظلت خامدة تحت الرماد طويلا .. وأطلقت شراراتها نحوه .. وضع سماعة الهاتف بهدوء .. ورفع لها عينين فى برودة الثلج .. أطفأت نيرانها ودفنتها تحت الرماد وأحالت كتلة غضبها المشتعلة فى لحظات إلى ابتسامة عاجزة وهى تردد : الغذاء جاهز .........
إمضاء
:tears:
زوجة مستكينة
:tears:
زوجة مستكينة
التعديل الأخير بواسطة المشرف: