في القسم الرابع من السورة يأتي النداء صريحا ، بعد سلسلة من من المقدمات والتمهيدات الموحية التي خاطبت القلوب همسا : " أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُواْ أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلاَ يَكُونُواْ كَالَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ * اعلموا أنَّ اللهَ يُحْيي الأَرْضَ بَعدَ مَوتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآياتِ لَعَلَّـكُم تَعقِلونَ ."
والنداء هنا للقلوب بأن تخشع لذكر الله ، وهو التسبيح الذي ورد في أول السورة " سبح لله " ، وأن تخشع للحق الذي جاء به الرسل وكتبهم .
هذا القلب المتقلب ، المنفتن بالدنيا ، بزينتها ولهوها ولعبها وملهياتها من مال وأولاد ، سيكون عرضة مع التسويف ، وطول الأمد ، لتراكم حب الدنيا فيه ، حتى يطمس عن النور ، ويتيه في الضلالة ، فيقسو ، ويظلم ، ويسير في درب الفسق والضلال .
الطباق ما بين " تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ " في أول الآية ، و " فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ " في آخر الآية يرسم صورة متباينة تستدعي كل صور الخشوع في الإيمان بالله وذكره والإنفاق في سبيله ، وكل صور القسوة في الانفتان بالدنيا والغرور ، ويقف الزمن هنا كفاصل بين الانقياد لصورة الخشوع أو لصورة القسوة ؛ لأن المحك هو المبادرة الآن استجابة لنداء الخير ، أو التسويف إلى أن يطول الأمد فيقسو القلب ، فالنتيجة مترتبة على مبادرة أو تسويف .
لفظة " الأرض " وردت هنا في موضع تشبيه القلب بها ، فكلاهما موضعٌ للحياة والموت ، وفي القسم الأول من السورة ، ارتبط ذكرها في علم الله بما يلج فيها وما يخرج منها كعلمه بما يتردد بالصدور ، ثم سيرد ذكرها في قسم لاحق في قوله تعالى " مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا " ؛ فهي والنفس البشرية موضعٌ للمصائب ، وهذا الارتباط الجميل ما بين الأرض والإنسان بقلبه وصدره ونفسه جاء في مواضع يقع فيها قلب الإنسان كأرض قابلة للاستثمار في جانب الخير أو جانب الشر ، فقد يزرع الانسان في قلبه خيرا ، وذلك باختياره ، وقد يزرع فيه شرا ، كما قد يحصل للأرض ، فقد تُستزرع فتدب فيها الحياة ، وقد تُهمل وتُتْرك فتموت وتهلك ! فالإنسان له أن يوجه خطراته للخير بالاستجابة لها ، وله أن يبادر إلى ذكر الله والإيمان به والإنفاق في سبيله كي يخشع قلبه وتدب فيه الحياة ، وله أن يتقبل المصائب بقلب مؤمن بقضاء الله ، وله أن يكون على عكس كل ذلك !